- ندوات إذاعية / ٠22برنامج ربيع القلوب - إذاعة القرآن الكريم الدوحة
- /
- ٠2 ربيع القلوب 2 - أحاديث عام 2020
مقدمة :
الدكتور محمد راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
المذيع :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على سيدنا نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أسعد الله أوقاتكم مستمعينا الكرام بكل خير ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أرحب بكم في هذا اللقاء الجديد عبر إذاعة القرآن الكريم من الدوحة في برنامج : " ربيع القلوب ".
لكم بداية التحية من فريق العمل ، من الإعداد محمود الدمنهوري ، الهندسة الإذاعية معتصم السلامة ، ومني في التقديم مصابر الشهال .
مستمعينا الكرام البركة في الرزق ينزلها الله تعالى للناس حين يؤمنون ويتقون ، فمن أراد رغد العيش والحياة الطيبة فليؤمن ، وليطع الله ورسوله ، ولكن الناس غافلون عن هذه السنة ، يرون الأرزاق الوفيرة عند أهل الكفر والضلال فيغترون بذلك ، دون أن يفرقوا بين فتح البركات ، وفتح أبواب كل شيء ، فقد تكون البركة في الشيء القليل لكنه يفي بالغرض ، ويعيش أهله به سعداء ، وقد يكون أهل الباطل يملكون المال الكثير والرزق الوفير لكنهم يعيشون بؤساً وشقاءً .
واليوم مستمعينا الكرام في هذه الحلقة من برنامج : "ربيع القلوب" ، نتناول آية من آيات سورة الأعراف وهي قوله تعالى :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
نرحب بضيف البرنامج الدائم الداعية الإسلامي فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي حياكم الله فضيلة الدكتور ، وأهلاً وسهلاً بكم في برنامج ربيع القلوب .
الدكتور محمد راتب :
بارك الله بكم ، ونفع بكم .
المذيع :
شيخنا الفاضل لو بدأنا هذه الحلقة بعد تلاوة هذه الآيات بوقفة عند المعاني واللطائف اللغوية في هذه الآية فضيلة الدكتور .
الربط بين الرزق و الاستقامة :
الدكتور محمد راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
الحقيقة الدقيقة أن بعض الحروف حروف المعاني منها لو ، لو كما قال النُّحاة : حرف امتناع لامتناع ، لو جئتني لأكرمتك ، امتنع إكرامي لك لامتناع مجيئك ، أما لولا فحرف امتناع لوجود ، لولا المطر لهلك الزرع .
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ﴾
على منهج الله .
﴿ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾
هم لم يستقيموا ، إذاً هناك معالجات منها الجفاف ، أما آية اليوم :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾
فهناك ربط بين الرزق والاستقامة ، أي هناك مئات القوانين الثابتة لا تتغير ، ولا تتبدل ، ولا تعدل ، ولا تجمد ، ولا تضعف ، إلا أن الله سبحانه وتعالى موضوع الصحة والرزق جعلهما متبدلين ، أن يكون موضوع الصحة والرزق أداتين تأديبيتين من الله عز وجل ، الدليل :
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾
إذاً نحن نؤمن أن الرزق بيد الله ، والصحة بيد الله ، هذان الشيئان الخطيران بيد الله عز يستخدمهما الله رب العالمين لحكمة بالغةٍ بالغة ، قد يستخدمان تأديباً ، وقد يستخدمان تكريماً .
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ﴾
إذاً هناك ربط بين المظاهر الطبيعية ، وبين سلوك العباد ، هذا الربط يؤكد أن الخالق واحد ، الذي خلق الموت والحياة ، خلق الصحة والمرض ، خلق القوة والضعف ، خلق المياه الوفيرة مع شح الأمطار بيد الله عز وجل ، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾
أي القرآن الكريم ذكر فحوى دعوة الأنبياء جميعاً بكلمتين :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
التوحيد نهاية العلم ، والعبادة نهاية العمل ، أنت بين فكر وسلوك ، بين منطلقات نظرية وخطوات عملية ، فملخص العلم التوحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، ألا ترى مع الله أحداً ، لا معطي ، ولا مانع ، ولا رافع ، ولا خافض ، ولا معز ، ولا مذل إلا الله .
المذيع :
فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، في بداية الآية هناك إشارة لأهل القرى من المقصود شيخنا بأهل القرى ؟
تعريف بأهل القرى :
الدكتور محمد راتب :
والله يوجد استنباطات كثيرة ، القرآن حمّال أوجه ، يبدو أن كل المجتمعات كلما ضاقت دائرتها ازداد الضبط الاجتماعي ، وكلما اتسعت ضعف الضبط ، قرية محدودة الخطأ فيها يُذاع ، ينتقل ، هناك من يلوم ، مدينة عملاقة يوجد بها خمسين مليوناً ، قد يفعل الإنسان كل الموبقات ولا يدري به أحد ، فكلما ضاقت الدائرة ازداد الضبط ، وكلما اتسع ضعف الضبط، لذلك الله عز وجل قال :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ﴾
هذه إشارة عميقة جداً ، كلما ازداد التجمع ضعف الضبط ، وكلما ضاق التجمع اشتد الضبط .
المذيع :
أي كلما كانت المدينة أكبر .
الدكتور محمد راتب :
طبعاً فيها موبقات لا يعلمها إلا الله ، القرى أقل ، القرى فيها تواصل ، الخطأ يشتهر .
المذيع :
شيخنا ؛ هذه الآية :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا ﴾
تأتي في سورة الأعراف ولها سياق ما قبلها وما بعدها ، ومناسبتها لهذه السورة ، لو أشرتم شيخنا أو وضحتم لنا مناسبة هذه الآية لموضوع سورة الأعراف .
الله عز وجل خلقنا ليرحمنا و يسعدنا :
الدكتور محمد راتب :
الآية تقول :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴾
أيضاً قانون ، بلدة شردت عن الله .
﴿ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ﴾
أنا أضرب مثلاً بسيطاً : إنسان يمشي بالطريق يرى ابنه ورفيقيه ، الابن يدخن فغضب من ابنه كثيراً ، أما ابن عمه يدخن فالغضب أقل ، أما الثالث لا يعرفه فيتركه ، كلما كانت الرحمة أكبر كانت المتابعة أشد ، الله أرحم الراحمين ، خلقنا ليرحمنا ، والدليل :
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
كلمة :
﴿ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
اركل بقدمك كل كلام آخر ، بقدمك اركله ، خلقنا ليرحمنا ، خلقنا ليسعدنا ، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض .
(( فيها ما لا عين رأتْ ، ولا أذن سمعتْ ، ولا خطَر على قلبِ بَشَرْ ))
خلقنا للنعيم المقيم ، خلقنا للجنة .
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
هناك أفكار أخرى أن الله كاتب عليه ذلك ، الذي يفعل المعصية ويتوهم أن الله كتبها عليه هذا نوع من الكفر .
طالب لم يدرس فلم ينجح فقال هذا الطالب : الله كاتب عليّ ألا أنجح ، هذا كلام فارغ ، هذا كلام يحتاج إلى عقاب أيضاً .
المذيع :
شيخنا في هذه الآيات أيضاً :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا ﴾
السؤال هنا شيخنا ؛ لماذا قص الله سبحانه وتعالى على رسوله عليه الصلاة والسلام طرفاً من أخبار تلك القرى ؟
الحكمة من قص الله عز وجل على رسوله طرفاً من أخبار القرى :
الدكتور محمد راتب :
الحقيقة أن القصة لها شيء آخر ، هناك كلام مباشر ، وهناك كلام غير مباشر .
أب أعطى لابنه توجيهات دقيقة جداً بعدم السرعة ، وهذا الابن معه سيارة ، حينما يرى هذا الابن حادث سير مروع مات به ثلاثة أشخاص و الدماء تسيل هذا أبلغ من النص.
فالقصة أداة تعبيرية عميقة جداً ، دائماً إذا أردت أن تهدم الطرف الآخر استخدم القصة ، اقرأ عن الصحابة ، عن التابعين ، عن العلماء الكبار ، عن تاريخ هذه الأمة ، وإذا أردت أيضاً أن تحطم القيم ائتِ بالأفلام ، فلذلك :
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾
القصة فيها عبرة ، قلت قبل قليل : حادث مروع ، ثلاثة أشخاص قد ماتوا ، هذا أبلغ من ألف محاضرة بعدم السرعة ، فالقصة حقيقة مع البرهان عليها .
المذيع :
أيضاً فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي في ربيع القلوب نتناول هذه الآيات سبحانه وتعالى جمع بين الإيمان والتقوى بقوله :
﴿ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ﴾
برأيك شيخنا كيف نفسر الجمع بين الإيمان والتقوى ؟ وهل الإيمان لم يكن كافياً لهذه البركة ، مجرداً عن التقوى ؟
من يستنير قلبه بنور الله يرى برؤية أبلغ من فهمه الفكري :
الدكتور محمد راتب :
أنا أؤمن بضرر هذه المعصية ، أما حينما يستنير قلبي بنور الله فأرى رؤية أبلغ من فهمي الفكري ، هناك فهم فكري ، ورؤية تقوى ، نعم الآية تقول :
﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ ﴾
دقق :
﴿ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾
للتوضيح الدقيق : هذه العين بأعلى درجة من البصر ، 6 على 6 ، والغرفة لا يوجد بها ضوء ، فالأعمى والبصير بهذه الغرفة سيان ، لابد من نور ، فكما أن العين تحتاج إلى نور متوسط بينها وبين المرئي، العقل يحتاج إلى نور إلهي يتوسط بين العقل وبين الحقيقة ، كلام دقيق جداً.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ﴾
فلذلك العقل وحده لا يكفي لمعرفة الحق ، العقل أعقد جهاز بالكون ، فيه مبادئ ثلاث ، مبدأ السببية ، والغائية ، وعدم التناقض ، أنت لا تفهم شيئاً إلا بسبب .
أغلقت البيت ، وسافرت لنزهة مدة شهر ، رجعت المصابيح متألقة ، وأنت أغلقت الكهرباء كلياً في البيت ، تضطرب ، لِمَ تضطرب ؟ لأنك أنت لا تصدق أن هذه المصابيح تألقت وحدها ، هذا مبدأ السببية .
شيء آخر ، ترى شاحنة وراءها سلسلة ، لِمَ هذه السلسلة ؟ تلتصق بالأرض ، لا علاقة لها بالشحن إطلاقاً ، ولا بنقل البضائع ، لكن عندك حاجة عقلية ما علتها ؟ هذا مبدأ الغائية ، الغائية حاجة عقلية .
هذه البقرة تعطي سبعين كيلو حليب ، وليدها يحتاج لكيليين من الحليب ، الفرق لمن ؟ تأتي الآية :
﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ ﴾
خلقت لكم خصيصاً ، وكلمة لكم أعتقد وردت عشرين مرة بالقرآن ، مخلوقة لكم ، مصممة لكم ، خصيصاً .
المذيع :
شيخنا ؛ هل يمكننا أن نفهم الجمع بين الإيمان والتقوى وربطها في فتح بركات السماوات والأرض أن حل مشكلات المجتمع وحل مشكلات العالم الإسلامي في ظل ما نعيشه الآن الإيمان والتقوى ؟
الإيمان والتقوى هو حلّ مشكلات العالم الإسلامي في ظلّ ما نعيشه الآن :
الدكتور محمد راتب :
بآية واحدة :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
ليس لها معنى إطلاقاً ، ما نزل بلاء إلا بذنب ، ولا يرفع إلا بتوبة ، خلقنا ليسعدنا، خلقنا لجنة عرضها السماوات والأرض ، والآية أدق من ذلك :
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
جنة في الدنيا ، وجنة في الآخرة ، الآن الفاعل هو الله ، القوي هو الله ، المتصرف هو الله .
﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾
الآية دقيقة :
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ﴾
الجبال تزول من مكرهم ، لكن :
﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾
فأنت في حصن حصين .
إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ويا رب ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟
المذيع :
مصطلح البركة شيخنا هنا في هذه الآية :
﴿ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾
ربما السؤال هنا الفرق بين فتح البركات وفتح أبواب كل شيء ، فالله سبحانه وتعالى يفتح على أهل الإيمان بركات السماوات والأرض كما في الآية أهل الإيمان والتقوى ، أما أهل الكفر فقد يفتح عليهم أبواب كل شيء المال ، والرزق ، والجوع ، والمرض ، والفقر .
الدكتور محمد راتب :
أي إنسان دخله محدود .
المذيع :
ما الفرق بين البركة والرزق ؟
الفرق بين الكسب والرزق :
الدكتور محمد راتب :
دخله محدود ، تزوج زوجة صالحة مؤمنة ، والدخل محدود ، يأكل ، ويشرب ، ويتنعم بأولاده ، وبزوجته ، وبمكانته ، وبدعوته إلى الله ، ودخله واحد بالمئة من دخل شخص متفلت .
أنا أذكر قصتين ، شخص من كبار أغنياء العالم ، يملك ثلاثة و تسعين ملياراً ، على فراش الموت ماذا قال ؟ قال : هذا الرقم لا يعني عندي شيئاً ، والثاني يملك سبعمئة مليار، أكبر ثروة يملكها إنسان ، أيضاً هذا الرقم لا يعني عنده شيئاً .
لذلك هناك شرح دقيق للرزق والكسب ، الرزق ما انتفعت به ، والحديث يقول :
(( وهَلْ لَك يا ابْن آدَمَ مِنْ مَالِكَ إلا ما أكلتَ فأفْنَيتَ ، أو لَبِستَ فأبْلَيْتَ ، أو تصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ))
معنى هذا أن الذي تنتفع منه مباشرة ثلاثة بنود ، بندان ليس لهما أثر مستقبلي .
(( أكلتَ فأفْنَيتَ ، أو لَبِستَ فأبْلَيْتَ ، أو تصَدَّقْتَ فأمْضَيْتَ))
أما الآخر فالحجم المالي اسمه كسب ، هناك إنسان يملك تسعين ملياراً قال على فراش الموت : هذا الرقم لا يعني عندي شيئاً ، والآخر يملك سبعين ملياراً ، هذا كسب الكسب لم تنتفع به ، لكن تحاسب عليه ، الرزق انتفعت به ، بندان ليس لهما أثر مستقبلي وبند هو الحقيقة الدقيقة التي نعيش من أجلها ، الحقيقة الدقيقة : الإنسان إذا شارف على الموت يقول :
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
معنى ذلك أن علة وجوده الوحيدة في الدنيا العمل الصالح ، ولمَ سميّ العمل صالحاً ؟ لأنه يصلح للعرض على الله ، ومتى يصلح ؟ إذا كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة .
المذيع :
فضيلة الدكتور ؛ هل البركة والرزق منحصران فقط في المال أو كسب الرزق ؟
الدكتور محمد راتب :
لا ، دقيقة .
المذيع :
أم هي أعم من ذلك ؟
البركة والرزق ليسا منحصرين فقط في المال أو كسب الرزق :
الدكتور محمد راتب :
﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ﴾
الإيمان رزق ، الانضباط رزق ، الاستقامة رزق ، السعادة البيتية رزق ، الزوجة الصالحة رزق ، الأولاد الأبرار رزق ، يوجد مئات أنواع الرزق ليس لها علاقة بالمال إطلاقاً ، عندك ابن صالح ، زوجة صالحة ، عندك مكانة اجتماعية ، عندك راحة نفسية ، عندك توفيق بعملك ، عندك سعادة تعيشها ، فعطاءات الله لا تنتهي ، فوز مبارك ، عطاء كثير ، بركة كبيرة جداً .
أنا أقول كلمة لا أبالغ بها : هذا المؤمن المستقيم الذي عرف الله ، واستقام على أمره إن لم يقل : ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني عنده مع الله مشكلة ، أنت مع الخالق ، مع القوي ، مع العليم ، مع الحكيم ، مع الرحيم ، وكل من حولك بيده .
دقق هذه الكلمة : إذا كان عندنا خمسون وحشاً كاسراً جائعاً مفترساً ، هذه الوحوش كلها مرتبطة بجهة عليمة ، حكيمة ، قوية ، أنا علاقتي مع الوحوش أم مع من يملكها ؟ مع من يملكها ، الدليل :
﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ﴾
يتحدى ، قرآن :
﴿ ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
وحينما تأتي على بعد لفظ الجلالة معنى ذلك أن الله جلّ جلاله ألزم ذاته العلية أن يكون مع عباده وفق ما ينبغي .
المذيع :
فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ؛ قد يقول البعض : نحن نرى أن بعض أهل الباطل ، أو أهل غير الإيمان ، أو حتى غير أهل الصلاح ، فتحت عليهم أبواب الرزق ، والرزق الوفير ، والسعة ، وقد يكون العكس يجد أن الإنسان الصالح فقير ومتعب .
العبرة بالآخرة والعبرة بالمصير :
الدكتور محمد راتب :
الآية واضحة ، اسمع الجواب :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ ﴾
ما قال باب :
﴿ أَبْوَابَ ﴾
ما قال شيء .
﴿ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
بربك ، إذا كان هناك مريضان أمام طبيب ، الواحد معه التهاب معدة حاد ، يحتاج إلى حمية قاسية جداً ، ستة أشهر على الحليب فقط ، والثاني معه ورم خبيث منتشر ، فالأول أخضعه لحمية قاسية جداً ، أما الثاني فسأل الطبيب : ماذا آكل ؟ قال له : كُلْ ما شئت ، أيهما أفضل أن تخضع لحمية قاسية أم أن تأكل ما تشاء ؟ واضحة تماماً :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
فالعبرة بالآخرة ، العبرة بالمصير .
المذيع :
جميل جداً ، فضيلة الدكتور ؛ تعقيباً على هذه الإجابة أن بعض الصالحين ، أو الملتزمين ربما قد يظن أن الآخرة للمؤمن ، والدنيا للكافر ، هل يزهد المؤمن بالدنيا إطلاقاً ؟
جنة الدنيا جنة القرب وجنة الآخرة جنة الخلود :
الدكتور محمد راتب :
لا ، يوجد كلام دقيق جداً :
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
جنة في الدنيا ، وجنة في الآخرة ، جنة الدنيا جنة القرب ، وجنة الآخرة جنة الخلود، لكن الله عز وجل في الدنيا يعالج العبد المؤمن ، يعالجه معالجة لطيفة ، فإذا انشغل بشيء دون هدفه الكبير يضيق عليه .
شخص معه التهاب معدة فأخضعه الطبيب لحمية قاسية فنجا من هذا المرض كلياً، وعاش حياة سعيدة ، أما الذي شرد عن الله شرود البعير .
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾
فهناك معالجة ، المعنى أنه يوجد أمل في الشفاء التام ، لذلك أهل الجنة إذا انتهت حياتهم يقولون : لم نرَ شراً قط ، مع أنهم تعبوا كثيراً في الدنيا ، حتى استقاموا ، وحتى فتح الله عليهم قربه ، أما أهل النار فيقولون : لم نرَ خيراً قط ، فالعبرة في النهاية ، في المصير .
المذيع :
فضيلة الدكتور ؛ في الآية :
﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا ﴾
هنا الآية بوصفهم بالكذب ، وليس بالكفر ، ما الفائدة ؟ ربما الإشارة إلى الكذب بالكفر ؟
التكذيب العملي أخطر من التكذيب النظري :
الدكتور محمد راتب :
الحقيقة الكذب أنت حينما يقول لك الطبيب : لابد من حمية قاسية جداً ، وأنت لطيف ، واجتماعي ، تدفع له الأجرة ، وتشكره ، وتصافحه ، ولا تأخذ الدواء ، عدم أخذ الدواء تكذيب عملي ، مدحه ، وأثنى على علمه ، وأعطاه أجرة ، لأنه لم يأخذ الدواء هذا تكذيب عملي، والتكذيب العملي أخطر ، والذي كذب نظرياً تناقشه ، تحاوره ، تقنعه ، الذي قال لك: الدين عظيم ، والإسلام عظيم ، وواضع آيات قرآنية ببيته ، ومصحف على سيارته ، ولا يمشي بشكل مستقيم ، المظاهر الشكلية لا تقدم ولا تؤخر ، فنحن عندما مظاهر إسلامية رائعة جداً ، مساجد رائعة ، وفرش وثير بالمساجد ، واحتفالات دينية رائعة جداً ، لكن بيتنا إسلامي ؟ دخلنا إسلامي ؟ إنفاقنا إسلامي ؟ نشاطنا إسلامي ؟ حفلاتنا إسلامية ؟ أفراحنا إسلامية ؟ أتراحنا إسلامية ؟ كله خلاف الشرع ، فعندما لا نطبق ما كلفنا به الله عز وجل في حلّ من وعوده كلها.
المذيع :
سبحان الله ! فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي في هذه الآية قوله تعالى :
﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾
في الآية التي قبلها :
﴿ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾
الأولى ذكر الطريقة ، والثانية ذكر السبب ، كيف نفهم هاتين الآيتين ؟
بطولة الإنسان أن يكون خاضعاً لمعالجة الله :
الدكتور محمد راتب :
موت الفجأة لغير المؤمن ، يكون غارقاً بالمعاصي والآثام ، أما المؤمن فقد يعالج، قد يأتيه مرض وبيل ، يتوب فيه من بعض الأخطاء ، قد يحرر دخله ، قد يحرر علاقاته ، قد يبدل وظيفته إذا كان وظيفة لا ترضي الله عز وجل .
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾
فالبطولة أن تكون خاضعاً للمعالجة .
مرة ثانية أقولها : الطبيب قال له : كُل ما شئت هذا مؤشر خطير جداً ، لا يوجد أمل بالشفاء ، معه ورم خبيث منتشر ، أما الذي أخضعه لحمية قاسية فهذا مؤشر إيجابي ، مادام الله يعالجنا ، ويضيق علينا فنحن في خير .
المذيع :
الآية التي تليها فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي :
﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ ﴾
هل النوم بمعناه الحقيقي أم بمعنى وهم غافلون ؟
القرآن حمّال أوجه :
الدكتور محمد راتب :
تحتمل المعنيين ، إما أن يأتي بالليل ، هناك مصائب جاءت بالليل ، أشخاص ناموا ولم يستيقظوا ، ناموا على معصية ولم يستيقظوا ، وأشخاص قد تأتي في النهار ، القرآن حمّال أوجه ، ويحتمل الوجوه كلها إن كانت مشروعة .
خاتمة و توديع :
المذيع :
أحسن الله إليكم فضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي الداعية الإسلامي على هذا اللقاء ، وعلى هذه الكلمات الطيبة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته